وئام … فراشة اللوزتين التي حلقت مبكراً

بقلم : أمين دبوان :

كانت وئام، ابنة الإحدى عشرة عاماً، مجرد همسة دافئة في صخب الحياة، وزهرة لم تكتمل ألوانها بعد في بستان والدها، مدير الأخبار بقناة يمن شباب الزميل عبدالستار بجاش ، كانت عيناها تحملان بريق البراءة المعتاد، وقلبها يخفق بإيقاع الألعاب المدرسية والضحكات البريئة. لم يكن يدر في خلد أحد أن الشرارة الأولى لمأساة قادمة ستنبعث من شيء بسيط، كـ التهاب بسيط في اللوزتين.

دخلت وئام المستشفى، بخطوات لم تكن تعلم أنها آخر خطواتها الثابتة على الأرض. كان التشخيص بارداً وروتينياً، لكن الوصفة الطبية كانت كالرصاصة الطائشة؛ جرعة “مستجدة” ضعيفة، لم تكن سوى تأشيرة مرور مجانية لبكتيريا حاقدة. لقد كانت روحها البريئة تحتاج إلى قلعة حماية حصينة.

خلال سبعة أيام فقط، كان الزمن يجري بعكس عقارب النجاة. تحوّل التهاب الحلق العابر إلى طوفان سموم اكتسح جسدها النحيل. لم تكتفِ البكتيريا باللوزتين، بل نصبت كمينها الأخير لـ الكليتين، الأعضاء النبيلة الذي بدأت بالاستسلام تحت وطأة الغزو الصامت.

ارتفعت نداءات الاستغاثة، وانتقلت وئام إلى عالم الأضواء القاسية والأجهزة الصامتة: العناية المركزة. بدأت رحلة غسيل الكلى المتكررة،. وهناك، بين خيوط الشاش وأنابيب الغسيل، تكاثرت فصول العذاب: جلطتان قاسيتان ، ثم التهاب الصدر الذي أجهز على آخر معاقل التنفس.

وفي قلب هذه الكارثة الإنسانية، ظهر المشهد الأكثر إيلاماً. لم يكن العدو الوحيد هو المرض، بل كان غياب الإنسانية. في تعز، بين أروقة المستشفيات الأربعة بين “خاص” و”حكومي” لم يكن هناك تعاون لإنقاذ روح طفل. كان هناك تنافس بلا إنسانية، ومزايدة على الألم، وكأن إنقاذ حياة ليس هدفاً سامياً بل مجرد بند في قائمة الإيرادات. ضاعت براءة وئام بين هذا التناحر القبيح.

أتذكرها مرتين، مرة وهي تدخل على قدميها الوديعة، والمرة الثانية وهم ينزعون عنها أنابيب الغسيل بعد الصمت الأخير. وما بين المشهدين، كانت قصة طفلة ضحّت بحياتها لتعرّي سوء الوضع الصحي وتكشف جفاف القلوب.

في لحظتها الأخيرة، وهي مسجاة، لم يكن على وجه وئام سوى براءة مُقدسة. لقد ارتقى جسدها الصغير، وروحها تحررت من أجهزة الغسيل والأنابيب التي أرهقتها.

رحلت وئام، فراشة اللوزتين، لتترك خلفها سؤالاً يدمي القلب: كم من وئام أخرى تدفع ثمن القصور الطبي أو تنافس بلا إنسانية؟

رحم الله وئام، وجعلها شفيعة لوالديها. وما أوجع هذا الألم!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى